الشيخ أحمد الطبولي ( من علماء ليبيا بالقرن 12 هـ - 18 م )
هو الإمام العالم الشيخ أبي العبّاس أحمد إبن أبي زيد عبد الرحمن بن أبي طبل المالكي المعروف بالطبولي يتصل نسبه بالشيخ عبد الحميد بن محمد إبن يوسف الفاسي الحسني (1) الشهير بأبي طبل لذا عرفت ذريته بالطبول , ولد الشيخ أحمد في بني وليد ولم نتمكن من معرفة تاريخ ميلاده على وجه الدقة ولكنه على الأرجح كان في منتصف القرن الثاني عشر للهجرة (+1150 هـ الموافق +1730 م) , تلقى بدايات تعليمه في زوايا قرى بني وليد عن أساتيذ وأعلام الوادي فحفظ القرآن الكريم منذ نعومة أظافره و درس مبادئ علوم الشريعة بزاوية الشيخ السوداني التي تتلمذ فيها على يدي الشيخ العلاّمة عمر المغربي الشهير بالسوداني (2) وبعد أن إتسعت مداركه و نال قسطا من المعرفة لازالت نفسه توّاقة لطب العلم , فشد الرحال إلى الجامع الأزهر للتبحّر في العلوم الشرعية حيث مكث فيه ردحا من الزمن مداوما في مجالس علمه , وبعد سنين من الجد والاجتهاد صارت له الرواية والتمكّن في شتى علوم الفقه الشرعية واللغوية وأجازه كبار علماء ذاك العصر بما لديهم من معقول ومنقول , وكان من جملة ممن أخذ عنهم وأجازوه الشيخ العلامة محمد الصادق إبن ريسون و شمس الدين محمد الحفني و احمد بن محمد الدردير و محمد بن احمد الدسوقي و علي العدوي الصعيدي و العلامة محمد مرتضى الزبيدي والشيخ محمد الكانمي وغيرهم... (3) .
وبعد عودته من رحلة الحج على عادة العلماء عقب الإنتهاء من التحصيل والإجازة العلمية , ظل الشيخ أحمد الطبولي متنقلا بين بني وليد وطرابلس حيث يشتغل بالتدريس والإفتاء في بني وليد تارة و بالمجلس الشرعي بطرابلس بقصر الولاية تارة أخرى, فكان محط أنظار السائلين من طلاب وعلماء عند إلتباس الأمور الشرعية عليهم وقد عُثر له على عدة فتاوى و تعليقات على النوازل والنظم , وكان مقصد العشرات ممن أرادوا النهل من بحر معرفته وسعة علمه وإطلاعه فتتلمذ على يديه العديد ممن صارت لهم مكانة في التاريخ و أدوار هامة في الساحتين السياسية والعلميّة فكان من أبرز مَن أخذ عنه إبنه الشيخ محمد الطبولي (4) و الوزير الشهير حسونة الدغيس وزير يوسف باشا القرمانلي (5) وكذلك الإمام الشيخ محمد بن علي السنوسي الخطابي مؤسس الطريقة السنوسية (6) .
يعتبر إهتمام العالم بثمين الكتب وأصول المخطوطات مؤشرا واضحا على مستوى وعيه العلمي والثقافي , وقد كان الشيخ أحمد الطبولي يولي اهتماما كبيرا بجمع الكتب النادرة والمخطوطات الثمينة , فلم يفوّت فرصة تواجده في أي قطر من الأقطار الإسلامية سواء لطلب العلم أو للحج إلا ويقتني كل ما أستطاع إليه سبيلا من أمهات الكتب ونفائس المخطوطات وكانت مكتبته الخاصة بطرابلس من المكتبات الهامة والقيّمة في ذلك الوقت لما احتوته من كنوز لأعلام العلماء. حتى أن الرحالة المغربي الشهير الشيخ أبي العباس أحمد بن محمد الفاسي لم يخفِ إعجابه بمكتبة الشيخ الطبولي وبسعة إطلاعه وحبه للكتب و قال عنه : (ووددت أن لو لقيته عند قدومنا على محروسة طرابلس لأشفي غليلي ببعض الكتب التي عنده , فإن له ولوعا بالكتب , ولم يقض الله بملاقاته إلا عند عزمنا على السفر من طرابلس , والله يفعل ما يشاء )(7) .
ومن ذخائر ما احتوته مكتبة الشيخ الطبولي الخاصة أهم نسخة في العالم من صحيح البخاري بخط الحافظ أبي علي الصدفي (المتوفى سنة 514 هـ الموافق 1120 م ) وعليها تعليق من الحافظ السخاوي ما نصه : (من الأصل الذي يعتمد عليه ويُرجع عند الاختلاف إليه ) كان قد اشتراها الشيخ أحمد الطبولي من إسطنبول في إحدى رحلاته إلى تركيا ضمن مجموعة من الكتب الأخرى وحيث اشتراها اجتمع بعض علماء اسطنبول وقالوا له : قد أخليت إسطنبول ..(8) كناية عن أهمية هذه النسخة الثمينة من صحيح البخاري , حتى أن الرحالة إبن عبد السلام الناصري صاحب الرحلة الناصرية والذي أعجب هو الآخر بمكتبة الشيخ الطبولي عرض عليه مائة دينار من الذهب لقاء تلك مخطوطة عندما إلتقى به سنة 1211 هـ في رحلته الثانية لطرابلس , ولكن الشيخ أحمد الطبولي إمتنع عن بيعها له, ومع ذلك لم ييأس الناصري من المحاولة مرة أخرى فعندما عاد لموطنه فاتح سلطان المغرب السلطان سليمان في شأنها الذي عرض هو الآخر على الشيخ أحمد الطبولي ( ألف مثقال أو ريال ) ثمنا لها ودعاه للقدوم للمغرب ولكن الشيخ الطبولي لم يذهب وآثر إلا ان تبقى تلك المخطوطة الثمينة في حوزته (9) وبالإضافة إلى ذلك كانت مكتبة الشيخ الطبولي عامرة بالعديد من الكنوز والأصول الأخرى منها تآليف لمحمد بن أبي بكر الرازي (توفي سنة 646 هـ 1250 م) والحافظ عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي (توفي سنة 600 هـ الموافق 1203 م ) وأيضا تأليف لإبن العماد وللشيخ عبد الوهاب الشعراني بالإضافة إلى رسائل للشيخ أحمد الزروق (10) وغيرها .
وبالإضافة إلى مكانته العلمية بين اقرانه من علماء عصره كانت للشيخ أحمد الطبولي رحمه الله مكانة خاصة بين الناس حيث كان يعتبر من وجهاء الولاية وأعيانها و كان يحظى بإحترام وتقدير من عوام الناس و خواصهم من ولاة قصر السرايا و كثيرا ما كان يُستشار حتى في بعض الامور السياسية فعلى سبيل المثال كان الشيخ أحمد الطبولي من خواص العلماء والوجهاء الذين استدعاهم علي باشا القرمانلي لإبداء الرأي والمشورة في قضية الرحالة الإنجليزي الشهير جوردن لاينج الذي قتل في تنبكتو سنة 1826 م وإتهام القنصل الإنجليزي "وارنجتون " للوزير حسونة الدغيس بتسليم وثائق الرحالة للقنصل الفرنسي آنذاك .
وقد كان منزل الشيخ أحمد الطبولي بسانيته في منطقة زاوية الدهماني بطرابلس بمثابة الحرم الآمن لمن دخل , تماما كما هو الحال في ذلك الوقت للمزارات وأضرحة العلماء والأولياء وما لها من حرمة لدى الناس.
ومن صور هذا الاحترام والتوقير للشيخ الطبولي كما ينقل لنا حسن الفقيه حسن في يومياته , عندما قام المتمردون بالمنشية والداعمون لمحمد القرمانلي في خلافه مع أخيه الوالي علي باشا القرمانلي سنة ( 1249 هـ الموافق 1833 م) بمحاولة القبض على شيخ محلة زاوية الدهماني وقتها الشيخ " محمد بوحمرة " و المحسوب على علي باشا وقتله , تمكن من الفرار إلى سانية الشيخ أحمد الطبولي ودخولها وبذلك أمن على حياته من المتمردين ... وكذلك سكان المنشية أنفسهم عند سماعهم بوصول قوات الباشا وقرب وقوع المعارك قام العديد منهم بنقل نفائس أملاكهم وأموالهم إلى سانية الشيخ الطبولي خوفا من تعرضها للسلب لما له من حرمة وإحترام حتى لدى الباشا نفسه (11).
وبعد ما يزيد عن مائة عام قضى جلها في خدمة العلم والدين وفي البذل والعطاء والتعليم والإفتاء وفعل الخير والإصلاح بين الناس توفي الشيخ الجليل أحمد الطبولي أثر الوباء الذي عم طرابلس (سنة 1252 هـ الموافق 1836 م ) وتوفي ابنه الشيخ محمد في نفس العام رحمهما الله وغفر لهما وأنزلها منازل الأبرار مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين.
( صورة الوثيقة المرفقة هي منظومة مدح للشيخ احمد الحضيري لشيخه محمد بن غلبون وعليها تعليق بالاسفل للشيخ احمد الطبولي بخط يده )
ــــــ
المراجع :
(1): مجلة الشهيد العدد 3 ص 179 \ وقد ذكر نسبه الحسني الشريف أيضا أحمد النائب الأنصاري في كتابه ( المنهل العذب في تاريخ طرابلس الغرب ) - لندن دارف 1984 م , في الجزء الأول في الصفحة 372 \ أيضا من كتيّب شجرة أنساب الطبول .
(2) : الشيخ أبي حفص عمر بن أبي عبد الله محمد بن علي بن أبي بكر المغربي الشهير بالسوداني عالم إبن عالم كان مفتيا ومستشارا بالمجلس الشرعي بقصر الولاية بطرابلس ومدرسا بزاوية والده في بني وليد توفي سنة 1181 هـ الموافق 1766 م رحمه الله , وصفه الرحالة الشيخ عبد المجيد الحسني المنالي بـقوله : " من أمثل أهل زمانه علما وديانة وحلما وعفافا وصيانة إلى أخلاق حميدة وخصال عديدة "
(3) : عبد الحي الكتاني ( فهرس الفهارس والإثبات ومعجم والمعاجم والمشيخات والمسلسلات ) - بيروت دار الغرب الإسلامي 1982 م , ج1 , ص 540 \ أحمد النائب الأنصاري ( المنهل العذب ...) ج1 , ص372 \ الطاهر الزاوي ( أعلام ليبيا ) ص 75 .
(4) : محمد بن أحمد الطبولي على خطى والده كان من الأساتيذ الأعلام كما وصفه أحمد النائب الانصاري إشتغل بالتدريس في طرابلس وكان من أبرز تلاميذه سلطان " برنو " الشيخ محمد الأمين الكانمي , توفي في عام وفاة أبيه الشيخ أحمد سنة 1252 هـ \ أنظر النائب ( المنهل العذب ...) ج1 , ص 319 .
(5) : حسونة محمد الدغيس : وزير الخارجية في عهد يوسف باشا القرمانلي ومن اشهر سياسيي العهد القرمانلي ,وصفه القنصل السويدي في طرابلس في ذلك الوقت ( جرابر ديهمسو) بأنه أعجوبة من الفهم والثقافة والمدنية ,توفي عام 1836 م للمزيد أنظر :عمار جحيدر(الحياة الفكرية في ليبيا في العهد القرمانلي) ص 97
(6) : النائب ( المنهل العذب ..... ) ج1 , ص 372
(7) : الدكتور " المرحوم " علي فهمي خشيم ( الحاجية من ثلاث رحلات في البلاد الليبية) ص 173 _ 174
(8) : عمار جحيدر ( الحياة الفكرية في ليبيا في العهد القرمانلي ) .. ص 95
(9) : كانت هذه المخطوطة حتى عام 1824 م في مكتبة الشيخ أحمد الطبولي ومن أملاكه الخاصة ولكنها بعد وفاته وُجدت في الزاوية السنوسية بالجغبوب ليحط بها الرحال أخيرا بمكتبة جامعة قاريونس ( وقيل مؤخرا انها فقدت نهائيا ! ) ولا نعلم على وجه الدقة كيف إنتقلت من مكتبة مالكها بزاوية الدهماني إلى الجغبوب هل أعارها الشيخ الطبولي للشيخ محمد بن علي السنوسي مؤسس تلك الزاوية خاصة وأن الأخير إلتقى به واخذ عنه أم هل تبرع بها للزاوية أم باعها له ؟ مع إستبعاد الخيار الأخير لأن الشيخ الطبولي رفض بيعها من قبل مرتين مرة للرحالة الناصري ومرة للسلطان سليمان سلطان المغرب لذا تبدو الفرضيتان الأولى والثانية أقرب للحقيقة والله تعالى أعلم .
(10) : ( الحياة الفكرية في ليبيا ....... ) .. ص 96 , الحاجية ص 173
(11) : حسن الفقيه حسن ( اليوميات الليبية) ج2 , ص165 , ص313
المصدر : مدونة بني وليد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق